كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى: {يفسقون} وبين قوله تعالى: {يظلمون} فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال: وتمام العلم بذلك عند الله تعالى.
{واسألهم} أي: اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع {عن القرية} أي: عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديمًا، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلًا في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميًا لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطئ البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقيل: مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني: رجلين من أهل المدن. {التي كانت حاضرة البحر} أي: مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} (البقرة،).
{إذ} أي: حين {يعدون} أي: يعتدون {في السبت} أي: يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد فيه وقد نهوا عنه، وقوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم} ظرف ليعدون {يوم سبتهم شرعًا} أي: ظاهرة على الماء كثيرة جمع شارع، وقال الضحاك: متتابعة، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض والحيتان السمك وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله: {يوم سبتهم} معناه يوم تعظيمهم أمر السبت يدل عليه قوله تعالى: {ويوم لا يسبتون} أي: لا يعظمون السبت أي: سائر الأيام {لا تأتيهم} أي: الحيتان ابتلاء من الله تعالى: {كذلك} أي: مثل ذلك البلاء الشديد {نبلوهم بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون} وقوله تعالى: {وإذ} معطوف على إذ قبله {قالت أمة} أي: جماعة {منهم} أي: من أهل القرية لم تصد ولم تنه لمن نهى {لم تعظون قومًا الله مهلكهم} في الدنيا بعذاب من عنده لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ {أو معذبهم عذابًا شديدًا} في الآخرة لتماديهم في العصيان {قالوا} أي: الواعظون موعظتنا {معذرة} نعتذر بها {إلى ربكم} أي: لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي فإنّ النهي عن المنكر يجب وإن علم الناهي أن مرتكبه لا يقلع عن معصيته وقيل: إذا علم الناهي حال المنهي وأنّ النهي لا يؤثر فيه سقط النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر أو الجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه كان ذلك عبثًا منك ولم يكن إلا سببًا للتلهي بك {ولعلهم يتقون} أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد؛ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
{فلما نسوا} أي: تركوا ترك الناسي {ما ذكروا} أي: وعظوا {به} ولم يرجعوا {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} أي: بالاعتداء ومخالفة أمر الله تعالى: {بعذاب بئيس} أي: شديد {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون}.
روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أسمع الله تعالى يقول: {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} فلا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي، قال عكرمة: فقلت جعلني الله تعالى فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، قالوا: لِمَ تعظون قومًا الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم، قال: فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فألبسنيهما، وقال نجت الساكتة، وقال عمار بن زيان: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قومًا الله مهلكهم، والذين قالوا معذرة، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن.
فإن قيل: إنّ ترك الوعظ معصية والنهي أيضًا عنه معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} ولهذا قال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان. أجيب: بأنّ هذا غير لازم لأنّ النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
{فيما عتوا عما نهوا عنه} قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان أي: فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وتمرّدوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرّم الله تعالى عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله. {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أي: صاغرين فكانوها كقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل،).
وهذا يقتضي أنّ الله تعالى عذبهم أولًا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلًا للأولى.
وروي أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وحرّم الله عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضًا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتًا وربط في ذنبه خيطًا إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال: إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا، فصار أهل القرية أثلاثًا ثلثًا نهوا وكانوا نحوًا من اثني عشر ألفًا، وثلثًا قالوا: لم تعظون قومًا؟ وثلثاهم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس شأنًا فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه ويبكي فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه بلى، وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. واختلفوا في أنّ الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية على شيء من ذلك، وعن الحسن: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيًا في الدنيا وأطولها عذابًا في الآخرة، وعن جابر: بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدّر له.
قال الزمخشريّ: هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله تعالى جعل موعدًا والساعة أدهى وأمرّ وقوله تعالى: {وإذا} عطف على واسألهم أي: واذكر لهم حين {تأذن} أي: اعلم {ربك} وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وهو {ليبعثن عليهم} أي: اليهود {إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} أي: بالإهانة والذل وأخذ الجزية منهم فبعث الله تعالى عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، وكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ولا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر حتى ينزل عيسى ابن مريم فإنه لا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
فإن قيل: إنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته أخذ الجزية أو الإسلام أجيب: بأنّ شريعته بذلك مغياة بنزول عيسى عليه السلام وقوله تعالى: {إنّ ربك سريع العقاب} أي: لمن أقام على الكفر كهيئة الدليل على أنه يجمع لهم مع ذل الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمرًا عليهم في الدنيا والآخرة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وإنه لغفور} أي: لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام {رحيم} بهم.
{وقطعناهم} أي: فرقناهم {في الأرض أممًا} أي: فرقًا بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة قط و{أممًا} مفعول ثانٍ أو حال وقوله تعالى: {منهم الصالحون} صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم {ومنهم} أي: أناس {دون ذلك} أي: منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم {وبلوناهم} أي: اختبرناهم جميعًا الصالح وغيره {بالحسنات} أي: بالخصب والعافية {والسيآت} أي: بالجور والشدّة {لعلهم يرجعون} أي: كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيآت يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب.
{فخلف من بعدهم} أي: هؤلاء الذين وصفناهم {خلف} والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال: خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ** لأوّلنا في طاعة الله تابع

وقال لبيد في الذم:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فحرك اللام والخلف مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {ورثوا الكتاب} أي: التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي: هذا الشيء الفاني الأدنى أي: الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى: أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام {و} مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه {يقولون سيغفر لنا} أي: لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون: سيغفر لنا، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} الواو فيه للحال أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى: {ألم يؤخذ} استفهام تقرير {عليهم ميثاق الكتاب} أي: التوراة والإضافة بمعنى في {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} أي: المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى: {ودرسوا ما فيه} أي: ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على {ألم يؤخذ} من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و{ألم يؤخذ} اعتراض {والدار الآخرة خير} أي: وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير {للذين يتقون} الله ويخافون عقابه {أفلا يعقلون} أي: حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب، والباقون بالياء على الغيبة.
{والذين يمسكون بالكتاب} يقال: مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين {وأقاموا الصلاة} أي: وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهًا على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر المصلحين} الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي: أجرهم. اهـ.